السبت، 26 فبراير 2011

قاعدة: الأمور بمقاصدها


الأمور بمقاصدها
هذه قاعدة منطقية وتعني أن كل أمر له شقان:الأول:هو ما يحمله الأمر من معنى في ذاته,أما الثاني فهو ما يحمله الأمر من مقصد,ولا يعرف الأمر من لم يتبين المقصد ووقف فقط عند المعنى ,كذلك من قام بعمل التزم فيه بنص الأوامر المكتوبة ولكنه لم يحقق المقصود من العمل.
إن الكلمة الواحدة,والجملة والعبارة لها معنى أو أكثر,وكل معنى له مقصد أو أكثر,فمن سمع الكلمة أو الجملة أو العبارة وكان يعلم معناها ولكنه لم يتبين مقصدها,فماذا يفيده المعنى,إذا سمع أو قرأ مثلاً:تقييد نشاط أحمد,إنه يعلم معنى تقييد وهي من القيد والأغلال,والنشاط يعنى الحركة والفعل,ولكن ما المقصود بتقييد النشاط؟.إن الجملة حين تقال من مدرس ابتدائي لأحد زملائه فهي تحمل مقصداً معيناً,أما إذا قيلت من مأمور ضرائب لزميله فالمعنى مختلف,وهكذا إذا قيلت أثناء معركة حربية فلعلها تحمل سراً لا يفهمه إلا من لديه مفاتيح فك الشفرة,وهكذا.
إن القصة المشهورة التي تقول إن أحد علماء الأزهر قد تعود أن يهمل في ملبسه كمظهر من مظاهر الرفض والسخرية من أوضاع الأزهر والوطن ,فاستدعاه يوما شيخ الأزهر وأخبره أن الملك سيزور الأزهر وعليه أن يحضر استقباله ,  ولكن المشكلة في الجبة البالية,فقال له الرجل:إن لدي جبة جديدة,وسأحضر بها استقبال الملك,فسعد شيخ الأزهر بهذا الوعد,وحين حضر الملك فوجئ شيخ الأزهر بالرجل يحضر بالجبة القديمة البالية وفي يده لفافة,فلما عاتبه لعدم تنفيذ وعده بالحضور بالجبة الجديدة أجابه:لقد حضرت بها,وهي معي في هذه اللفافة وأخرجها له.إن الرجل كان يدرك تماماً مقصد شيخ الأزهر ولكنه لكي يحقق هدفه لجأ إلى الوقوف على الألفاظ دون أن يقفز إلى المقصد.
أما القصة الثانية التي أود أن أذكرها لعلاقتها بالموضوع فهي:نشر أحد الأشخاص إعلاناً في الصحف الأمريكية يقول إنه يبيع قاتل للصراصير يتميز بالآتي:إن نسبة نجاح مفعوله في قتل الصراصير هو 100% إذا استخدم بالطريقة الصحيحة ,وأنه آمن جداً ولا يسبب أي تسمم,ولا يضر بالبيئة,وأنه يمكن أن تستمر قدرته على القتل لعدة سنوات,فعلى من يرغب في الشراء إرسال حوالة بمبلغ عشرة دولارات وسيصل إليه المنتج,وإذا ثبت فشله في قتل الصراصير عند الاستخدام السليم فمن حق المشتري أن يستعيد ماله مع تعويض قدره مائة دولار.انهمرت الأموال على صاحب الإعلان وبعد أن توقف سيل التدفق بدأ في إرسال المنتج وكان عبارة عن شبشب بلاستك أو قبقاب على ما أظن,وبدأت الشكاوى من الناس وتحول أمره للقضاء,فحكم القاضي ببراءته لأن المنتج مطابق تماماً لنص الإعلان,وأفلت الرجل بفعلته.
إن فهم المقاصد هو مسلك أهل الحكمة والعقلاء,أما الوقوف عند المباني وعدم تجاوزها هو صنيع أهل الجمود والعجز والضعفاء والأغبياء,وفي أحيانا كثيرة المرضى النفسيين.
ففي القضاء:الحكم بروح القانون وليس بنص ألفاظه,ويعد القاضي الذي ينجح في تطبيق روح القانون مفخرة للقضاة ويردد ذكره وتذكر أحكامه في كل مناسبة,وقد قالوا في القواعد الفقهية"العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني ,لا بالألفاظ والمباني",ولو أن القاضي الأمريكي أخذ بهذه القاعدة لعاقب صاحب القبقاب.  
في الفقه:يسمى ذلك بفهم الغرض من النص,وقد نسيت الأمة كثيراً من فقهائها ولكنها خلدت الذين أجادوا فهم الهدف من الآيات أو الأحاديث.
وفي الطب:يجيد الأطباء النوابغ استخدام الأدوية في غير الغرض المصنعة من أجله,لأنه درس مفعول الدواء ثم قرر أن يستفيد من مفعوله في علاج مرض يتأثر بهذا المفعول,وكذلك بعض الأجهزة الطبية وغير الطبية في علاج حالات لم تكن هذه الأجهزة قد صممت أو صنعت لهذا الغرض
في العرف العام:يطلق الناس على من يشتهر بالتعامل مع مقاصد الأمور ولا يتوقف عند مبانيها بصفة "سعة الأفق",بينما يصفون من يقف عند الألفاظ والأفعال دون تجاوزها للمقاصد بـ"ضيق الأفق".
الرسائل الضمنية:
إن الحياة كلها أمور,من يفهم مقاصدها فهم الحياة ومن لم يدرك مقاصدها لم يستوعب ما في الحياة.إن الأقوال لها مقاصد,وكذلك الأفعال والأعمال,فالتزين وارتداء الملابس والسير بطريقة غير معتادة,وطريقة الحديث ولحن الكلام,والإشارة باليد أو بالرأس أو العين والخطاب المرسل بما فيه من كلمات وورق وطريقة تنسيق وألوان,كل هذه رسائل لها مقاصد,هذه الرسائل لا تكشف عن مقاصدها مباشرة,بل تحتاج لفطنة وذكاء وخبرة لكي يمكننا فهمها,هذه هي الرسائل الضمنية,فمن أقبل عليك ليحدثك فإياك أن تفشل في قراءة رسالته الضمنية:كيف يتحدث,ماذا يرتدي,تعبير وجهه,حركات يديه وجسده,معدل سرعة يديه وجسده في الحركة هل هي بطيئة أم متوسطة أو سريعة.وهكذا كل شئ في الحياة,حتى القدر الذي تصادفه في حياتك ماذا لو فهمته على أنه رسالة ضمنية من الله,وعليك تحليلها واستنباط ما فيه
إننا لكي نطبق القاعدة فلابد أن نجيد العمل بها في اتجاهين:
الأول:أن نفهم ما نتلقاه من خلال تبين المقاصد لا المعاني اللغوية.
أما الثاني فهو أن نهتم ونركز ونبذل الجهد لكي تخرج منا الأمور للآخرين معلومة ومفهومة وواضحة المقاصد.
إن القاعدة ذكرت بألفاظ أخرى لبيان نفس الهدف مثل(الفرق بين الشكل والمضمون أو المظهر والجوهر).
الظاهر والباطن,الحقيقة والخيال.
واجباتك إذا كنت مصدر الأمور:
-         أن تبذل أقصى جهدك ومبلغ علمك لتكون مقاصدك واضحة لا تحتمل أمرين:حديثك,ألفاظ كلماتك,ملابسك في كل مناسبة,حركات يديك وجسدك,هديتك,انفعالك وغضبك,فرحتك وسرورك.
-         أن تجهد نفسك في معرفة الواقع المحيط بك أثناء الحدث وقبل الحدث وما يتعلق بالحدث,فبعض الكلمات تحمل معنى في مكان أو ظروف,وتحمل معنى مختلفاً في مكان أو ظرف آخر,كما أن ملابسك تعطي رسالة ضمنية في موقف والملابس نفسها تعطي رسالة أخرى في موقف غيره
-         أن تدرب نفسك على معرفة تباين واختلاف طبائع الناس وشخصياتهم,لأن الكلمة التي تسر شخصاً ربما تجرح آخر,وذهابك بملابس معينة لمقابلة إنسان ربما تسعده وهي نفسها تثير حفيظة غيره,وحديثك البسيط يريح أناساً ويستفز آخرين.
-         أن تضع في اعتبارك أنك ترسل رسائلك لأناس على قدر بسيط من الفهم والذكاء والإدراك,وليس لذوي العقول الكبيرة والأفهام الواسعة.
-         أن تكون محيطاً بهدفك من رسالتك للناس,وأن يغلب على ظنك أن رسالتك بالكيفية التي ترسلها بها ستحقق الهدف المقصود,وإياك أن تقول لقد أرسلت الرسالة وعليهم فهمها
-         أن تجيد حسابات تبعات العمل والقول وما سينجم عنه من خير أو شر,لأن ذلك ستحاسب عليه وكأنه من مقاصدك.
واجباتك حين تتلقى رسائل غيرك:
-أن تستخدم معلوماتك ومعرفتك بالأشخاص والأماكن والطباع لكي تدرك المقصود من الرسائل.
-أن تتجنب سوء الظن بأحد أو حسن الظن المبالغ فيه من أن ينحرف بك عن المقصد,فلا يفسد فهمك ضغينة أو سذاجة.
-ألا يذهب بك غضبك,أو سرورك,أو حرصك على مصلحة,أو خشيتك من ضرر,أو شعورك بتفوق أحد عليك أو بالفارق الكبير بينك وبينه من الثقافة أو العلم أو المال أو الجاه والسلطان,من أن تسئ فهم مقصده
-أن تفرق بين الهدف المعلن الواضح والهدف المقصود,فليس كل ما يرسله الناس يحمل الوضوح في طياته.
متى نتعمد إخفاء المقاصد؟:
*مع العدو,وفي التخطيط والإعداد للحروب ,وفي الأبحاث التي تتطلب السرية.
* في كل عمل يتطلب السرية وينتج عن كشف المقصد فيه أضراراً واضحة.
*وجود اعتقادات معينة صحيحة أو خاطئة,مثل الخوف من الحسد,أو الرياء.
متى لا يكلف الإنسان بفهم المقاصد
هناك حالات استثنائية يجب على الإنسان فيها التوقف عن فهم المقاصد مثل:
-         ما لا يعنيه من الأمور,مثل أن يسمع أو يرى شيئاً في منزل جاره أو في مؤسسة حكومية لا علاقة له بها,فلا يجوز أن يبحث أو يسأل ويستفسر عن المقصود بهذه الأمور.
-         إذا كان الأمر أعلى من مستواه ومسئولياته:فمن كلف بحمل رسالة إلى شخص آخر وهي عبارة عن كلمة أو جملة فلا يجوز له أن يتبين مقصد الكلام.كما أن الجندي في المعركة ينفذ الأوامر بنصوصها دون أن يكلف بفهم المقصد منها,ولا يطلع على المقاصد العسكرية والسياسية إلا القادة والمستويات العلا من المسئولين.وكذلك في مستوى الموظف في الهيكل الإداري.والعمال في المصانع.
-         إذا لم تكن قدراته تسمح بفهم المقاصد:مثل تطبيق الأحكام الفقهية ونصوص القرآن والسنة,فليس كل الأمة تستطيع أن تفهم المقاصد من النصوص,ولذلك يتبع الناس المذاهب الفقهية في تطبيق الدين.
تطبيقات في فهم رسالة الإسلام:
إن الإسلام يأتي من مصدرين وهما الكتاب(القرآن) والسنة,ومن فهم المقاصد من نصوص القرآن والسنة فهم الدين أما من توقف عند الألفاظ والمباني فهؤلاء هم من أفسدوا الدين,وعلى الرغم من أنهم موجودون في كل عصر إلا أنهم لا يذكرون في التاريخ إلا قليلا . وقد حدث أن أحد الصحابة فهم أحد نصوص القرآن من خلال معنى اللغة وليس المقصد من اللغة,فقد أحضر خيطين أحدهما أبيض والآخر أسود,وظل يأكل حتى بان له الفرق بين الاثنين, هكذا فهم الآية" وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر",فلما بلغ الرسول(ص) ذلك ضحك وقال له إنك امرؤ عريض القفا,إنما ذلك الفرق بين ظلمة الليل وضوء النهار.
وقد طبق عمر بن الخطاب ذلك حين أوقف سهم المؤلفة قلوبهم رغم وجود النص القرآني,حيث إن المقصود من النص قد تلاشى فلماذا يبقى العمل به؟
إن الفقهاء يجتهدون للوصول للمقصد من النصوص,ويتم لهم ذلك بمعرفة مقاصد الشريعة,والمنطق(الواقع),والمصلحة العامة للأمة.
إن القول المشهور"القرآن حمال أوجه",هو صحيح,وليس القرآن فحسب بل كل قول وكل فعل,أما من يفهم الأمور على وجهها الصحيح فهو فقط من يحدد المقاصد قبل أن يفسر القول والأفعال,وهذا يدعونا لإنشاء علم {مقاصد القرآن},وتدريسه قبل أن نطلب من الناس قراءة القرآن وفهمه فضلاً عن تفسيره.إننا نرى القرآن يقرأ من جميع طوائف المسلمين المختلفين والمتشاحنين والمعادين لبعضهم,ولم يجمعهم القرآن,لماذا؟,لأن كل طائفة تفهم القرآن من خلال المقاصد التي حددتها لنفسها,فإن صحت المقاصد صح الفهم وإن أخطأت المقاصد ضل الفهم,لقد قرأ القرآن الصالحون والطغاة وأهل الظلم والبغي والفسوق,وفهموه على المقصد الذي حددوه قبل أن يلتقوا بكلماته,كذلك يقرأ القرآن أهل الأديان الأخرى,ولا يرون فيه إلا الباطل والقبح والضلال,لأنهم حددوا المقاصد التي سيقرأون على أساسها هذا الكتاب,أما من أسلم حين قرأ القرآن فقد كان لديه قواعد وأسس لبيان الحق من الباطل , وكان لديه الاستعداد لقبول الحق أو تفنيد الباطل .
حادثة القتال في الأشهر الحرم:قبل غزوة بدر وأثناء مرور سرية من الصحابة التقت بقافلة صغيرة من قريش,وحدثت معركة تم فيها قتل أحد رجال قريش وأسر آخرين,وانطلقت من قريش حملة دعائية شديدة للتشهير بالمسلمين لقتالهم في الأشهر الحرم,وشق ذلك على الرسول والمسلمين,ولكن القرآن نزل لبيان ضرورة العمل بالمقاصد وليس بالمباني والكلمات فقال: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (217) سورة البقرة.
إن منع القتال في الأشهر الحرم له مقاصد,منها الأمن على السفر والانتقال في الحج والعمرة,أما أن يستغل ذلك في إقرار ظلم أو إعانة باغ فليس من المنطق في شيء.
تطبيقات عامة:
في الدين:الصلاة :
إن المقصد من الصلاة متعدد ولا يقف عند حد الأداء,ومن ذلك
-         إيمان بالله وبالرسول:وهذا ما يجعل المؤمن يصلي طاعة لله وتصديقاً لما بلغ رسوله.
-         الخضوع للأمر دون تردد وأداء الصلاة بالكيفية التي وردت له دون تبين السبب في الوضوء والركوع والسجود.
-         إعلان تصديقه وطاعته لله أمام الناس(في الصلاة جماعة في المسجد),وطاعته في الخفاء لله(الوضوء في البيت,القراءة السرية,الذكر والتسبيح).
-         إن الصلاة دائماً يعبر عنها بلفظ"الإقامة" وليس بلفظ الأداء,لبيان أن المقصد من الصلاة أكبر من مجرد أدائها .
-         إن الهدف من الصلاة هو ما يترتب عليها وينتج عنها,ولذلك قال الله"إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر",وقال الرسول(ص):من لم تنهه صلاته فلا صلاة له.
ونحن سنتفكر في المقصد من الصلاة من خلال رؤية تقول إن الصلاة في الإسلام تمثل"الحياة" ولكن بطريقة مصغرة ورمزية,كيف؟:
-إن الأمر بتفضيل صلاة الجماعة على صلاة الفرد يعني دعوة المسلم للانتماء للجماعة في كل أعماله بدلاً من العمل الفردي.
- إن المساواة بين المسلمين في الصلاة يعني رفض وجود طبقية بسبب المال أو المنصب أو السلطان.أما التمايز فيجب أن يكون منطقياً,أي تبعاً لتفوق الفرد في المجال المحدد المتخصص,ومن ذلك أمر الرسول(ص) للمسلمين في الصلاة:ليلني منكم أولو الأحلام والنهى ثم الذين يلونهم:أي لا يتقدم الصبية على الكبار,ولا البسطاء على أهل العلم والفقه.وكذلك فإن اختيار الإمام يخضع لمعيار الكفاءة في قيادة المسلمين في الصلاة,فيكون الأولى هو أكثرهم فقها ثم أحفظهم قرآناً ثم أكبرهم سناً,وهكذا.ومن ذلك نرى في مسجد الوزارات مثلاً أنه يمكن أن يؤم الساعي أو الفراش أو الموظف البسيط الناس وفيهم الوزير ووكيل الوزارة لأنه أكثر منهم فقهاً,وأحفظ منهم للقرآن.
- إن التعليمات التي تلقى على المصلين قبل الصلاة تصلح لأن تكون تعليمات للحياة كلها مثل:
*استقيموا يرحمكم الله وأيضا:إن الله لا ينظر إلى الصف الأعوج, :لماذا نقصر ذلك على الصلاة,استقيموا في حياتكم يرحمكم الله,إنه إعلان أن الإسلام لا يعرف  ولا يقبل غير الاستقامة,وأن المسلمين يجب أن يتميزوا بالصفوف المستقيمة,فلا وقوف عشوائي,أو صفوف ملتوية,بل الشكل المنظم الجميل.
*إن الإسلام قد بين أن ممن لا تقبل منهم الصلاة من أم قوماً وهم له كارهون:ليعلم المسلم بأنه لا يفرض نفسه على أحد,حتى لو كان أهلاً لذلك,بل يترك الناس تختار من ترضاه,في كل حياته وليس في الصلاة وحسب.وهي إعلان على احترام رأي وقبول الناس.
* لا تدع فرجة للشيطان بينك وبين أخيك:إنها في الصلاة تعني تلامس الأكتاف والأقدام,ولكنها في الحياة تعني ألا تترك جفوة أو مسافة أو قطيعة تسمح للشيطان أن يفسد ما بينكما.
* "إنما جعل الإمام ليؤتم به",أمر بوجوب الانخراط في جماعة,والسمع والطاعة للأمير,فلا يتقدم على الجماعة ولا يعمل منفردا,هذا في الدولة والأسرة والمؤسسة وغيرها.
*إن الإمام إذا أخطأ فلا يجوز إتباعه وهو على خطأ,بل نذكره بخطئه,فإذا رجع عدنا لمتابعته,أما إذا أصر على موقفه فنفارقه أي لا نأتم به ولكن لا يجوز أن نتخذ إماماً غيره وهو في الصلاة بل يصلي كل منا منفرداً,حتى قيل لا يسلم المأموم حتى ينتهي الإمام المخطئ من صلاته ثم يسلم معه,أو يسلم المأموم وقتما يشاء,وقد سن الإسلام سجدتين للسهو إذا أخطأ الإمام ويكلف المأمومين بفعلهما,إعلاناً أن الخطأ وإن كان من الإمام فكل المصلين يتحملونه معه أليس الأمر يشبه العلاقة في الحياة بين الأمير والمحكومين؟.
*هل نتبع الإمام بعد الصلاة؟,كلا,فالإمام نتبعه أثناء الصلاة فحسب,فإذا انتهت الصلاة فهو كواحد منا,وهذا يعني أن الإنسان لا يكون إماماً في كل موقع بل هو إمام حيث جعل الله له سلطاناً ورضي الناس به في هذا السلطان,فالمدير لا يوجه تعليمات لأحد لينفذها على أهل بيته,أو خارج مقر عمله إلا ما كان مرتبطاً بالعمل.
في الصيام:
-         "رب صائم لم ينل من صيامه غير الجوع والعطش"
-         "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه"
         في أحكام الطلاق:إن الله قد وصف عقد الزواج بأنه ميثاق غليظ"وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً",وقد كان العقد يتم بمجرد إيجاب وقبول بين الطرفين دون مستندات تثبت الزواج,فلما حدث التقدم اشترط العلماء أن يتم العقد رسمياً ويوثق في الجهات الحكومية,أما قبل ذلك فلا يعتبر زواجاً,أما الطلاق فما زال أهل الفتوى يتمسكون بفتاوى العصور القديمة,والطلاق أخطر من الزواج,والمحاذير التي نفرضها في الزواج يجب أن نفرض أكثر منها في الطلاق.
لقد توقف أهل العلم عند حديث الرسول(ص)"ثلاث جدهن جد وهزلهن جد,العتق والطلاق والرجعة".إن الحديث يدعونا للامتناع عن الهزل في أمور لا تحتمل الهزل,وليس من المنطق أن يقصد الحديث أن نتربص بكل من نطق بكلمة الطلاق ونحسبها له طلقة,حتى إذا اكتملت ثلاث فرقنا بينهما على التأبيد,هذا هو الهزل.
إن الطلاق لا يقع إلا بعد أن يتم توثيقه في المحررات الرسمية فقط,أما قبل ذلك فلا طلاق,من قال أو هدد أو اشترط على زوجته بعمل معين تصبح بعده طالقاً,كل ذلك وأمثاله لا يقع به طلاق.والطلاق يقع حين يتقدم الزوج إلى المأذون ويطلب منه توثيق تطليق زوجته,فإن راجعه وأقنعه بعدم التطليق لم تحسب طلقة وإن كان قد تلفظ بلفظ الطلاق أمام زوجته وأهلها وجمع كبير من الناس. الطلاق لا يتم إلا بتوثيق رسمي,ولنتوقف عن الفتاوى التي امتلأت بها الكتب ودار الإفتاء والتي تبحث فيمن قال لزوجته أنت طالق إذا...,إن هذا نوع من التهريج يجب أن يتوقف,الأمور بمقاصدها:هل يقصد الله والرسول أن تكون العلاقة بين الرجل والمرأة بهذه الهشاشة,ثم يقوم الفقهاء بالتيسير على الناس لكي لا تخرب البيوت فيقولون نعتبر أنك كنت غضباناً,أو في غير وعيك!!.هل نتشدد في إقامة البناء ولا نتشدد في هدمه على رؤوس قاطنيه؟.
يجب أن نعلن للناس أن من طلق امرأته ألف طلقة ومن حلف مائة يمين بالطلاق ثم لم يذهب للمأذون ويوثق ذلك فلا يعد كل ذلك طلاقاً مطلقاً,ولا يحسب عليه أنه طلق زوجته لا مرة ولا أزيد.
إن المقصود من الحديث أن تمسك الألسن عن المزاح والهزل,فإن كان ولابد فبعيداً عن الأمور المعقودة بين طرفين وتعتمد على الثقة بين طرفين,ويقاس على ذلك كل الأمانات التي لا تحمل وثائق تثبتها مثل الأموال والأسرار.
التوبة والاستغفار والمغفرة والرحمة:
سنذكر أولاً بديهيات وأسس لابد أن نتفق عليها,أما إذا اختلفنا عليها فلا داعي إذن للسير في بقية الموضوع:
-         إن كل ذنب أو معصية إنما حدث نتيجة استخفاف بالعواقب الدنيوية والأخروية,وكسر طوق الخوف من الله.
-         إنه ليس هناك ذنب لا يترتب عليه ضرر,سواء للغير أو داخل النفس,أما الضرر الذي يصيب الغير فمعلوم من الاعتداء على أعراض أو أموال أو أنفس ,أما الضرر الذي يصيب الإنسان من الداخل فيتمثل في شعور المذنب بأنه تجرأ على ربه ورجح كفة راحته أو وقته أو متعته على الفروض التي فرضها الله عليه,أو السنن التي كان ملتزماً بها.
-         إن مجرد فعل الذنب يعني أن هذا الإنسان يعاني من خلل في منهجه,إما جهل أو استخفاف بمشاعر الناس,أو رفض بأن يساوي نفسه بغيره,فيسبب  ألماً لغيره دون أن يستشعر داخله بالحسرة لما فعل.
-         إن الله سيحاسب الناس على كل ما فعلوه بميزان دقيق,ولن يفلت أحد من الحساب على أي ذنب فعله:"فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره,ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره".
-         إن الذنب إذا تم كشف فاعله متلبساً بفعلته فلا مجال للعفو عنه,بل تجب العقوبة الرادعة الزاجرة المتوازنة.
-         إن التوبة والاستغفار والندم هي أمور بين العبد وربه,ولا دخل للبشر فيه,وهي من أمور العقيدة وليس الفقه,وحكم التائب والمستغفر هو حكم يقضي فيه الله وحده دون سواه,ولا شأن للبشر به.
-         إن التوبة المقبولة من الناس هي لمن أعلن توقفه عن الفساد طواعية وانضمامه للمجتمع قبل أن تتمكن السلطة من القبض عليه,أما إذا قبض عليه أو حوصر فلا تقبل توبته وتجب فيه العقوبة.
-          إن من حق الناس أن يظل ملف الإنسان مفتوحاً حتى موته,لا يمحى منه شيئ مهما تاب أو استقام,ولا يجوز أن نطالب أحداً بأن يساوي بين من أخطأ وأفسد وروع وبين من أصلح وبنى وأسعد.
وقد سلك المنهج الإسلامي كما أذن الله لي أن أفهمه مسلكاً رائعاً,فقسم مراحل ارتكاب المعصية إلى مرحلتين:الأولى:قبل وأثناء الفعل,والثانية:بعد الفعل.
المرحلة الأولى:قبل أو أثناء الإقدام على المعصية:
هنا يعيش الناس بين المغريات والهوى والشيطان وبين الخوف من العقوبة من الناس ومن الله,أما المغريات فأمر الإسلام بمنعها بكافة أشكالها,الجنسية والمالية والسلطوية,بل دعا لمساندة الضعفاء ومن يمكن أن يهوي في الذنوب,مثل تسهيل الزواج,الزكاة,والصدقة,ومراعاة مشاعر المحرومين,ولكنه يتحدث بشدة وعنف وتهديد لكل من لم يذنب بعد,ليمنعه عن مجرد التفكير في الذنب,وهذه بعض النصوص :
"فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره,ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره".
"يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا,وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً,ويحذركم الله نفسه,والله رءوف بالعباد".
"وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون".
"إن بطش ربك لشديد,إنه هو يبدئ ويعيد".
"وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافاً خافوا عليهم,فليتقوا الله وليقولوا قولاً سديداً,إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيرا"
"فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين"
"بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون".
"قال ومن كفر فأمتعه قليلاً ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير".
"وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرأوا منا,كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار"
"إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمناً قليلاً أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم,أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة فما أصبرهم على النار"
"ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون".
"الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس,ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا,فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ,ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون".
"يأيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون,واتقوا النار التي أعدت للكافرين".
"إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار".
"إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار".
"والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم,يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم ,هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون".
"وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم".
"وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله فحاسبناها حساباً شديداً وعذبناها عذاباً نكرا,فذاقت وبال أمرها وكان عاقبة أمرها خسراً".
"إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليما ويستبدل قوماً غيركم".
"ومن يظلم منكم نذقه عذاباً كبيراً".
"واعتدنا للظالمين عذاباً أليماً".
{فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ } (79) سورة البقرة
-{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ } (159) سورة البقرة
-{وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ} (1) سورة المطففين
-{وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ} (1) سورة الهمزة
" لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن,ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن...الخ"حديث شريف
هذا في المرحلة الأولى,التهديد والوعيد لمنع وتجنب البدء في المعصية.
أما أثناء اقتراف الذنب:من المنطقي أن يهدف الإسلام هنا إلى تخفيف المعصية لأقل ما يمكن أما إذا تمكنت السلطة أو أحد من المسلمين من ضبطه متلبساً فقد وجب أن يقبض عليه ويسلمه للسلطة ليحاكم ويعاقب ويمنع الوساطة التي ترفق بالمجرم
المرحلة الثانية:وهي أن المسلم ارتكب المعصية,وفضل وغلب شعوره بالمتعة والسعادة على حساب قيمة علاقته مع الله ومهمته في الأرض من إعمارها ومهمته مع الناس فقد تجاهل قيم العدل والمساواة وقبل أن يضر غيره مقابل مصلحة أو لذة يشعر بها, ثم إنه قد أفلت بجريمته ولم يره أحد من الناس,هنا يكون الهدف المنطقي هو أن نمنعه من تكرار الفعل,وأن نعيده مرة أخرى إلى المجتمع المسلم ليبني مع أفراده,وأن نزيل شعوره بالخوف والرهبة من العقاب يوم القيامة.ثم نمنعه من التعود على الذنب والضعف أمام نفسه لعودة الشعور باللذة,أي أننا نتعامل مع مريض نفسي نعالجه بحكمة ليعود إنساناً سوياً أو أقرب للسوية. فكيف تعامل الإسلام مع هذا المريض:
فيقول الرسول موجهاً حديثه لهؤلاء:
- لو لم تذنبوا لذهب الله بكم وأتى بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم"
فهل يعني ذلك الدعوة إلى اقتراف الذنوب لإرضاء الله,وأن الله لا يحب من عباده الاستقامة الكاملة التي يخلو فيها سجل الإنسان من الضعف والذنوب والعيوب؟, نعم إنه يعني ذلك لو توجه الرسول بهذا الحديث للمؤمنين من أهل الطاعة والاستقامة والصلاح,أما عندما يتوجه الحديث لأهل المعاصي فإن للحديث مقصدا آخر.
-         إن العبد إذا أذنب فاستغفر ربه قال الله أذنب عبدي فعلم أن له ربا يغفر ثم يتكرر الذنب ويتكرر الرد ثم يقول الله:فليفعل عبدي ما يشاء فإني قد غفرت له.
-         إن الحديث موجه لمن يستغفر ثم لا يقوى على الاستمرار في الاستقامة,بأن يظل على أمل المغفرة ولا يهرب إلى اليأس فيكون ضرره على نفسه وعلى المجتمع.
-         قصة الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفسا ثم سأل عن توبة,تلخص الموضوع وترسل الرسالة الواضحة,حين قيل له ليس لك توبة,قتل العابد الذي قال له ذلك,فأكمل به المائة,وكان الحل فيمن أخبره بإمكانية التوبة.
-         حديث الرسول الذي يقول بأن الله حين يتوب عبداً من عباده يكون أفرح ممن كان في صحراء ومعه ناقته وعليها كل متاعه فهربت منه,فيئس من عودتها,فنام تحت شجرة ينتظر الموت,فلما استيقظ وجدها أمامه وعليها طعامه وشرابه,فأخطأ عندما أراد أن يشكر ربه على هذه النعمة فقال"اللهم أنت عبدي وأنا ربك".
-         إن من يأخذ الحديث على محمله المعتاد يخطئ في حق الله,لأن الله سبحانه وتعالى لا يفرح ولا يحزن فهو منزه عن التغيير,ولكن الحديث يحمل رسالة موجهه لأهل المعاصي,فلماذا يقف في طريقها أهل الصلاح ويفهموا أنها لهم,إنهم ليسوا المقصودين بالرسالة.
وفي القرآن الكريم:
-         "إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات".وقد فوجئت يوما بقائل يقول:إنه من الممكن أن يسبق أهل المعاصي أهل الطاعة بنص القرآن,لأن المعاصي إذا بدلت حسنات فاقت حسنات أهل الصلاح.ومن قال إن من العاصين من سيندم حين يبدل الله سيئاته حسنات أنه لم يستزد من السيئات!!
-         "قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله,إن الله يغفر الذنوب جميعاً":إن الحديث القرآني موجه لمن أسرفوا على أنفسهم,إذن فالمقصد يمكن استنتاجه.إن الرقة والتلطف الذي نستشعره من الآية التي تخاطب الذين أسرفوا على أنفسهم,أليس هناك احتمال أن يكون إسرافهم قد أدى إلى قتل أو زنا أو سرقة أو فتن خربت بيوتاً,أو أجهزت على أرواح نتيجة الحسرة والحزن والألم؟ومع ذلك يخاطبهم القرآن بهذا الأسلوب الودود,ويخاطب غيرهم ممن لم يبدأ في الخطأ أو ربما أخطأ بذنب لا يقارن بالذين أسرفوا على أنفسهم,يخاطبهم بشدة مثل"ويل لكل همزة لمزة,الذي جمع مالاً وعدده,يحسب أن ماله أخلده,كلا لينبذن في الحطمة,وما أدراك ما الحطمة,نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة,إنها عليهم مؤصدة,في عمد ممددة",لماذا كان هذا التفريق؟
-         لأنه ببساطة شديدة لو نظرنا إلى الآية فسنجد أنها تخاطب الذين أسرفوا على أنفسهم,وتخاطبهم بهدف المعالجة النفسية لمنعهم من الاستمرار في غيهم,فهو علاج نفسي لإنسان جامح,أما التهديد بالويل فلكل إنسان يريد أن يستقيم مع الله وتنازعه نفسه في أن ينحرف عن الاستقامة,فهل يجوز أن يتساءل أحد لماذا يهدد القرآن من لم يفعل الذنوب بلغة قاسية,بينما يتودد لمن فعلها وانتهى منها بلغة حانية وترفق؟,وهل يجوز أن يفهم أحد من آية"يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم"أن الله يحب هؤلاء أكثر من حبه للمؤمنين المقصرين في أمر ربما يكون الأوحد في حياتهم مثل خطابه للمؤمنين بلغة فيها الشدة والقسوة"{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ} (38) سورة التوبة
-         ثم يعقب({إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (39) سورة التوبة,هل تدري لمن كان يوجه هذا الإنذار؟..إنه للصحابة الذين هم حول رسول الله,وجاهدوا معه واستشهد بعضهم في سبيل الله.هل يمكن أن يفهم القرآن أو الحديث أو أي قول أو فعل في الحياة دون إدراك المقصد منه؟
إن التوجه بالحديث نحو فئة معينة لمقصد معين مثل:
-         {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لِّأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (16) سورة التغابن.
إن الآية موجهة للمؤمنين الذين يشقون على أنفسهم,ويبالغون في الحذر من الخطأ,والخوف من غضب الله وعذابه,فهل يجوز أن يستشهد بها أهل الفجور والمعاصي,فيصبح معنى "فاتقوا الله ما استطعتم" افعلوا ما يحلو لكم ولا تضيقوا على أنفسكم,فالأمر بسيط؟.
إن الخروج من المقصد أو تجاهل المقصد عن عمد هو الذي أدى بالأمة إلى ما هي فيه.
قيمة العمل:
إن الحساب يوم القيامة سيكون على أساس العمل,ولن يدخل أحد الجنة أو النار إلا نتيجة عمله,أما أن يكون هناك حديث يقول"إنه لن يدخل أحد الجنة بعمله,قالوا ولا أنت يا رسول الله,قال :ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته",لو صح الحديث فيجب أن يفهم من خلال المقصد,إن العمل المجرد يجب ألا يتكل عليه إنسان ويظن أنه سيدخل الجنة به,فالعمل يجب أن يكون عن نية وقصد صحيح,وأنه قد عمل الأفضل والأولى وليس المفضول والأدنى,وأنه لم يتعمد الإكثار من أعمال أو الركون إليها مع التقليل من غيرها أو هجرها تماماً لما فيها من مشقة على نفسه.
فهم العقيدة والنسك(الشعائر):إن الله قد أنزل أمور الاعتقاد لتحقيق هدف محدد,وفهم العقيدة من خلال استيعاب المقصد هو ديدن العلماء والفقهاء,ولذلك فهم يشرحون للناس العقيدة بطريقة تحقق الهدف الذي يعلمون أنها فرضت من أجله.أما غيرهم فهم يحولون العقيدة إلى نقاط شقاق وتقسيم للأمة إلى أهل إيمان وكفر وضلال مع ما ينجم عن ذلك من تبعات,وكذلك النسك من صلاة وحج وعمرة,هناك من يفهم المقصد ويعمل له وهناك من يجعلها هدفاً في ذاتها تتعطل من أجلها المصالح,وتضيع بسببها الأوقات.
في الفقه وأصول الفقه:
يقرر الفقهاء أن الفتوى تختلف تبعاً للزمان والمكان والأشخاص,لماذا؟,لأن للفتوى مقصد,ولن يتحقق المقصد إذا أفتينا فتوى واحدة وألزمنا بها الناس مهما اختلف الوقت والبيئة وحال الشخص من علم وتقوى وذكاء وفطنة.
وقد فرق العلماء بين المحرم,تبعاً للمقصود من التحريم,فقالوا إن المحرم نوعان:محرم لذاته ومحرم لغيره,فالمحرم لذاته هو ما كان فيه الضرر مثل أكل الميتة وشرب الخمر والسرقة والزنا وكل ما يمس الضروريات الخمس:حفظ الجسم والنسل والمال والعقل والدين.أما المحرم لغيره فهو ما يفضي إلى محرم,ولكنه ليس ضرراً في ذاته مثل النظر لعورة المرأة لأنه يفضي إلى الزنا,ويترتب على هذا الفقه أن المحرم لذاته لا يباح إلا للحفاظ على ضرورة,مثل الخوف من الموت,أما المحرم لغيره فإنه يباح لحاجة,مثل إباحة كشف المرأة جسدها للطبيب للكشف عليها وعلاجها.
وقال العلماء"إن العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني,وليس بالألفاظ والمباني",وهذا ما جعلني أحزن على حكم القاضي الأمريكي بتبرئة بائع القباقيب.
وفي القاعدة الأصولية"ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب",يعني أن المقصد يغير الأمر من معتاد أو مباح إلى فرض وواجب,فالاغتسال واجب فقط إذا كان شرطاً لتحقيق واجب مثل إزالة الجنابة,والصيام في غير رمضان يصبح فرضاً للدخول إلى غرفة العمليات لإجراء جراحة,ورش الماء في الشارع لإطفاء حريق,وتعلم الفيزياء والكيمياء والهندسة والطب وعلوم الدين لبناء حضارة الأمة,فإذا استكفت الأمة لم تعد نفس الأمور واجبة كسابق عهدها.
الشورى والديمقراطية:
إن الشورى تعني اتخاذ القرار بعد أن تتضح جميع عناصر الواقع.ويتم ذلك بأن يأتي المتخصصون ويدلي كل منهم بالمعلومات التي لديه حتى إذا اكتملت الصورة أمام صاحب القرار أو أصحاب القرار فإن القرار يأتي مطابقاً للواقع,ويكون أمام متخذ القرار عدة بدائل يمكن أخذ الشورى عليها من المجموعة المسئولة عن القرار.
هذا هو مقصد الشورى,أما أن يأتي أحد بمجموعة من الناس يتخيرها ويعلم نهجها ليشاورهم في أمر يعلم هو قبل غيره رأيهم المسبق فيه,أو يشاور من يرتاح إليه ويبعد من يخالفه الرأي فهذه ليست الشورى بل هي صورة تشبه الشورى.
كذلك من يشاور من لا يملك أدوات الشورى,فالجاهل بأمر لا يدخل في أهل الشورى في هذا الأمر,كما أن البديهيات لا شورى فيها,لأنها لا تحتمل أمرين.
أما الديمقراطية:فتعني أن يكون الشعب محكوما من داخله,أي أن ما يريده الشعب هو الذي يكون,ولا يتم ذلك إلا إذا نجح الشعب في اختيار ممثلين له يكون الأمر بيدهم لا بيد غيرهم,ويترتب على ذلك أن يكون من حق الشعب أن يقيل من يشاء ويعين من يشاء في أي وقت.أما عملية الانتخابات والاختيار فإنها تمثل الآلية التي يتم بها تحقيق الهدف.فإذا حققنا شكل الآلية دون أن تحقق الآلية الهدف منها فإن ما يحدث هو صنع شكل آلية الديمقراطية وليس صنع الديمقراطية.ولكن لماذا ترضي الشعوب بالمشاركة في لعبة الأداء الشكلي للديمقراطية بل وتبتهج به وتتفاعل معه؟.لأنها لم ترب على المنطق,ولا تعرف الفرق بين الشكل والجوهر,ولم تتعلم في المدارس"الأمور بمقاصدها".
في اللغة:
هناك أساليب في اللغة العربية وفي كل لغة يطلق عليها البلاغة والمصطلحات والتعبيرات,وعلماء اللغة يقومون بشرح المقصود من هذه الأساليب ,فإذا قال أحد"لقد تعاهدت مع ثعلب",أو"لقد جاورت أسداً",يشرح علماء اللغة ذلك فيقولون إن المقصود بالثعلب الرجل الماكر,والأسد الرجل الشجاع,ويطلقون على ذلك "تشبيه",إذن فالتشبيه والاستعارة والكناية هي أدوات لشرح مقاصد العبارات.فإن للكلمات والعبارات مقاصد,يفلح من يصل إليها,ويضل من يفشل في فهم مقصودها.  
  النكتة والفكاهة:تعتمد في أغلب الأحيان على الخلط بين المقاصد.فقد روى لي سائح إنجليزي نكتة تقول:حضر أحد الأيرلنديين إلى لندن,فاستوقفته الشرطة في محطة القطار,وسألوه ليعرفوا هدفه من زيارة لندن:ما الذي جاء بك إلى هنا,فأخرج تذكرة القطار وقال لهم: هذه.
وأذكر أنني في المرحلة الثانوية دخل علينا مدرس احتياطي لغياب المدرس المكلف بالحصة,فطلب منا أن نتركه يرتاح ولا نقلقه بشئ,وكان من الصعب علينا أن نتمالك أنفسنا ونصمت حصة كاملة,فقررت أن أتحدث معه في أي موضوع, فقلت له:ما معنى أن الساعة 17 حجر,وأخرى 21 حجر؟وكان هذا في الساعات القديمة,فأخذ يشرح لنا معنى ذلك,وبعد قليل سألته:هي ساعة حضرتك كام؟,فأجاب:21 حجر,فقلت أسألك كم الساعة الآن؟,فضحك وضحكنا,لأنه أيقن أنني أمازحه,فإذا تحدث عن الوقت سألته عن عدد الحجارة,وإذا تحدث عن الحجارة سألته عن الوقت.
في الأمثلة:يقولون "إنني أسمع ضجيجاً ولا أرى طحيناً".
والمعنى هو: إنني لا أرى المقصود من الضجيج,أو دوران المطحنة.
في العلاقات بين الناس:
إن كثيراً من المشكلات التي تحدث بين الأصدقاء والزملاء يكون سوء فهم المقاصد سبباً في ذلك,وخصوصاً بين الرجل وزوجته والأهل والأقارب,فنجد أن الكلمات والعبارات تفهم على غير المقصود منها,ولا يكلف أحد نفسه في السؤال عن المقصود من ذلك,بل يتصرف وكأن ما فهمه هو المقصود دون شك,فتحدث المشكلات والخلافات والانشقاقات.بل ويلجأ الناس لتجنب من يتكرر منه سوء الظن,فيتحاشون الحديث معه بحرية,بل يتحفظون في الحديث والعلاقات معه ,ويشعر صاحب الظن السيئ بالظلم والجفاء من الغير,ويبرر لنفسه موقفه فيقول لقد قال كذا وهذا معناه كذا,فما يدريني بمقصده؟.وهكذا تتحول البيوت لمعاقل للنكد والشجار.ومن العواقب السيئة لذلك تجنب الحديث والحذر من طرف خشية سوء الظن به من الطرف الآخر,إن الطرف الذي يسيء الظن سيجد أن هناك أموراً تحدث لم يكن على علم بها,فتزداد شكوكه  وسوء ظنه,ثم تكون المشكلات,وكما قلنا إن كل إنسان يجب أن يحرص على الوضوح الكامل لتصرفاته مثل المعاملات المالية(إنفاق المال دون توضيح لمصدره أو جهة إنفاقه),الغياب خارج المنزل,العلاقات مع الغير,الخروج المتكرر في غير أوقات العمل,وهكذا. 
الإبداع من منظور المقاصد:
إن الإبداع من منظور المقاصد يعني تحقيق المقصد ولكن بوسيلة مبتكرة تحقق مميزات أكثر وتكلفة أو أضراراً أقل.
فالإبداع في الفقه:هو الفتوى التي تحقق مقاصد الشريعة ولكن بتخفيف العناء عن الناس.
والإبداع في القانون:هو سن قانون يحقق المنفعة ذاتها ويمنع الأضرار نفسها ولكن بمشقة أقل على الناس.
وفي الطب:يعني اختراع أو اكتشاف أو ابتكار دواء أو آلة أو جهاز أو جراحة تحقق أهدافاً وفوائد أكبر,مع أضرار وتكاليف أقل.
مواقف ستثير عجبك أم اشمئزازك؟:بعد أن اطلعت على هذه القاعدة"الأمور بمقاصدها" ماذا سيكون موقفك حين ترى هذه الأمور؟:
-         ينعقد اجتماع مجلس إدارة شركة أو مؤسسة أو نادي ثم لا يتحقق منه النتائج المستهدفة,وبالرغم من ذلك يتكرر الاجتماع في موعده الثابت,ويظل لنفس المدة المقررة,وبالأشخاص أنفسهم,ثم لا نتائج.
-         اتفاق أسرة على التجمع كل يوم عطلة,ويستمر الحضور بانتظام رغم بقاء الخلافات والضغائن والجفاء بين أفراد الأسرة.وكأن المقصود هو مجرد التجمع وليس شيئاً آخر.
-         قيام خطيب مسجد بتذكير المسلمين ووعظهم طيلة سنوات كثيرة,ثم لا تجد أثراً لما قال,وهكذا مجالس العلم والذكر,والكتب التي لا حصر لها,وشرائط التسجيل عليها الخطب والمواعظ.
-         يذكر لك أحدهم أنه قد أتم حفظ القرآن وأجزاء كبيرة من البخاري ومسلم ثم لا تجد أي فرق في سلوكه قبل الحفظ وبعده.
-         ذهبت مجموعة من الناس لزيارة مريض,وبعد الزيارة سأل أحدهم الآخر:هل حققنا الهدف من الزيارة؟ فرد عليه:لا أدري.فسأل أحد طلبة العلم:ما هو المقصود من زيارة المريض؟ فذكرها  لهم كأحسن ما يكون,فقال الرجل إننا إذن قد فعلنا شيئاً آخر غير زيارة مريض.
-         سأل طبيب زميله:لم كتبت لهذا المريض ذلك الدواء؟,هل يمكن أن يفيده أو تتحسن به حالته؟,فأجابه:كلا ,ولكن هذا هو الموصوف في الكتاب وما درسناه.
-         حرر أمين شرطة مخالفة لسيارة تركن في الممنوع,فقال له صاحب السيارة:إن اليوم عطلة والشارع يخلو تقريباً من المشاة والسيارات,ولن تسبب سيارتي أي إعاقة للمرور.فرد عليه:إن القانون لم يذكر توقف المخالفات يوم العطلات.    
والآن سأفكر في شيء ربما يغضب غالبية الأمة,إنني أتساءل:لماذا أنزل الله القرآن على الأمة؟
الإجابة:ليكون منهجاً لها,تتبع تعاليمه,فتحل حلاله وتحرم حرامه.
والسؤال:ماذا لو فعلت الأمة بالقرآن كل شيء جميل غير ذلك الأمر,فلم تفعله؟
الإجابة المنطقية:إذن كأنها لم تفعل شيئاً.
إن الأمة طبعت القرآن في المصاحف كأحسن وأجمل ما يمكن,وتعاهدت على تحفيظه ورصدت الأموال الكثيرة كمكافآت للحفظة,وشجعت المقرئين ذوي الصوت الحسن والأداء اللحني الجميل بتسجيل قراءتهم وإذاعتها في الإذاعات وعلى الشاشات,وتعودت على البدء به في الافتتاحات كلها وتمت دراسته لغوياً وعلمياً,ولكنها لا تطبق ما فيه على الواقع,ولا تجد في ذلك غضاضة,أو تشعر بتأنيب ضمير أو لوم,وما زالت القصة مستمرة!.
من صور الانحراف عن المقاصد:
تعمد الهروب والقفز ما بين الأصل والفرع,أو من الركن إلى جانب من الجوانب:فمن صلى بغير وضوء أو إلى غير القبلة أو إلى ضريح من الأضرحة أو صلى عرياناً أو مفتقداً للشروط فإننا ننهاه عن مثل هذه الصلاة ونحن على حق,أما أن يقول قائل:"أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى",فهو بذلك حول الأمر من الأصل إلى الفرع,فنحن ننهى عن الصلاة بسبب فقدانها للشروط التي تصح بها أو لأنها خرجت عن الهدف الذي فرضت من أجله,فإذا بالآخر يظهرنا وكأننا ننهى عن الصلاة كأصل,وكذلك يفعل من يأمرك بأن تسير تابعاً كالغنم خلف غيرك ويدلل على ذلك بوجوب السمع والطاعة,وضرورة أن يكون لكل مجموعة قائد يسمع له ويطاع,أو أنهم يعملون لمصلحة الجماعة والوطن والدين وأي خلاف معهم فإنه يعني رفض العمل للوطن والدين والأمة.
إن تعمد العدول عن المقصد يدل إما على جهل بين أو سوء طوية وانحراف نفس.
من آيات القرآن:
  • {لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} (225) سورة البقرة
  • {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (89) سورة المائدة
إن الآية توضح أن الله يتعامل مع البشر على أساس المقاصد وليس الأشكال والمظاهر,حتى في الحلف والقسم بالله,وهو يعني تعظيم الله في النفوس, ولكن طالما أن المقصد لا يعني الاستخفاف أو التهوين من قدر الله في النفوس فإن الله لا يحاسب على مثل ذلك.
قواعد فهم الأمور بمقاصدها:
  • إن الأمر إذا لم يحقق المقصد منه فالعمل فيه والحرص على إنجازه هو العبث وليس نوعاً من العبث.أي أن اتخاذ وسيلة أو التشبث بوسيلة يعلم صاحبها أنها لن توصل للغاية فإن ذلك يدل على خفة عقل أو انحراف نفس.
  • إذا أيقنا من استحالة تحقيق المقصد فقد وجب علينا التوقف عن العمل أو إدخال تعديلات عليه ليتحقق بها الهدف.
  • ليس هناك وسيلة وحيدة لتحقيق مقصد ما,فأي وسيلة يمكنها تحقيق المقصد في أسرع وقت وبأقل تكلفة وبأفضل أداء تكون لها الأولوية على ما سواها,وإن التمسك بوسيلة ما لتحقيق مقصد بينما يمكن تحقيقه بطريقة أفضل من خلال وسيلة أخرى فإن هذا يعني جهلاً أو انحرافاً أو جموداً أو عصبية لانتماء معين أو ضيق أفق.
  • لا يعذر من قام بعمل لتحقيق مقصد محدد,بينما يترتب على ذلك العمل حدوث أمور متعددة,فلابد لمن يقوم بعمل من أن يحسب جميع التبعات وكل النتائج المترتبة على عمله,فالعمل المثالي هو من يحقق المقصد فقط دون أضرار أو تأثيرات جانبية.
  • إن سوء فهم المقاصد سيترتب عليه سوء فهم الوسائل,وإن سوء اختيار الوسائل سينتج عنه سوء تحقيق المقاصد.
  •  

الدعوة لتجديد الدين


بسم الله الرحمن الرحيم
تجديد الدين
مفهوم التجديد
إننا سنذكر بعض ما نحسب أنها حقائق و نرى أنها منطقية ولعلها تكون  بداية لوضع أسس تجديد الإسلام :
·       إن الإسلام هو الدين الذي أوحاه الله إلى محمد بن عبد الله(ص),وهو يقتصر على الوحي أو ما أوحى الله به إلى نبيه(ص).
·       إن للإسلام أصل واحد يمثل الوحي(منبع أو مصدر التشريع),وهذا الأصل يتمثل في أمرين هما القرآن وما كان في السنة من وحي.
·       إن الإسلام هو الدين الذي يجب على المسلمين أن يؤمنوا به,وما لم يؤمروا أن يؤمنوا به فليس من أصل الدين.
·       إن كل ما عدا الوحي لا يعد من الإسلام بل يكون من إضافات البشر بدءً من النبي(ص) إلى الصحابة والتابعين والعلماء والفقهاء والمجتهدين.
·       إن كل ما عدا الأصل ثم ينسب نفسه للإسلام يجب أن يتقيد بالأصل ولا يخرج عنه,ولا يجوز أن يكون هناك أمر من صنع البشر ينسخ أو يعدل أو يبطل الأصل (الوحي).
·       إن العقيدة لا تؤخذ إلا من القرآن ومن يقين السنة,ولا شيء غير ذلك.
·       إن النسك والشعائر لا يشرعها إلا الله,ويأخذها المسلمون من أمر الرسول بها, وأدائه لها,وليس بصفته مشرعاً لها,فالنسك والشعائر لا تكون إلا بوحي.
·       إن المعاملات تفهم من خلال منظورين
-         الأول هو:القواعد والأسس التي جعلها الله من سنن الحياة,كالعدل والمساواة والرحمة والصدق والوفاء والاستقامة,والإعمار وهذه لا تتغير ولا تتبدل مع الزمان ولا المكان ولا الأشخاص.
-         الثاني هو:تطبيق ذلك في الأحكام,فيؤخذ الحكم كتطبيق أو صورة أو مثال وليس كأصل,فإذا طبقنا الحكم (النص)على الواقع فأدى ذلك لمخالفة الأصل غيرنا في الحكم حتى يتطابق مع الأصل والقاعدة الفقهية المنطقية تقول:(الأمور بمقاصدها).
·       إن نصوص الوحي الخاصة بالأحكام هي تطبيق لأصل وليست أصلاً في ذاتها,ولهذا فيمكن تعديلها بالزيادة او النقص أو تجميد العمل بها طبقاً للأصل(المرجعية الحاكمة:العقل والفطرة والغريزة وإعمار الكون).
·       إن فهم صفة الله بأنه متصف بكل كمال ومنزه عن كل نقص يجب أن تكون حاكمة في فهم روح الدين,فلا شيء يمكن قبوله منتسباً للدين يستشعر فيه أهل الصدق والحكمة والاستقامة أنه ينقص من قدر الله,كما لا يرفض أمر يستشعرون منه أنه يدل على كمال عظمة الله.
·       إن التاريخ والأحداث والشخصيات,والأقوال والأفعال,لا تنسب للإسلام مهما كان صاحبها,ولا يترتب عليها اعتقاد أو نسك وشعائر أو تأصيل للمعاملات.
·       إن الأمم السابقة قد خلطت بين ما هو صناعة إلهية(الوحي),وبين ما هو صناعة بشرية(أقوال وأفعال المنتمين للدين),فرفعت قدر الوحي  بداية,ثم ساوت بين الإثنين,ثم عظمت ما صنعه البشر على ما صنعه الله,وما كان للمسلمين أن ينزلقوا إلى هذا المستنقع وقد تعهد الله بحفظ كتابه.
·       إن المذاهب والفرق يجب أن تفترق بسبب اختلافها على قواعد وأسس فهم الأمور,وليس على أساس اختلاف مصادر الدين,فيصبح التاريخ والأشخاص والأحداث عند ذلك أصلاً من الدين كالوحي سواء بسواء.
·       إن من يعرض الإسلام على الناس يجب أن يقتصر عرضه على الوحي,فمن يكفر بالوحي يكفر بالإسلام, ومن يؤمن بالوحي يؤمن بالإسلام,وما دون ذلك فليس مما يجب أن يؤمن به,سواء قبله أم رفضه.
·       إن رفض الإسلام لاتباع"ما ألفينا عليه آباءنا" هو أمر منطقي,فليس من المنطق أن يعبد أحد ربه بفهم غيره, بل كل إنسان سيكون مسئولاً أمام الله بما من عليه من فهم,والحد الأدنى الذي يمكن قبوله من الناس أن يكونوا قد راجعوا فهم الآخرين وقبلوه ولم يجدوا لديهم أو في أنفسهم ما هو أفضل منه,أما أن يكون فهم الآخرين أصلاً وأساساً يمنع الخروج عليه أو مناقشته فهذا ما لا يقبل من أسوياء وما نحسب أن الله يعذر مثل هؤلاء يوم القيامة.
·       إن شيئاً مما يجتهد به البشر ويبدعون من فكر ومشاريع وتحضر ويحكم عليه أهل الحكمة والعدل بالصواب والاستقامة فهو من الإسلام وإن لم يوجد به نص معروف من الوحي,وإن كل ما يحكم به أهل الحكمة والعدل بالخطأ والانحراف فإنه ليس من الإسلام حتى وإن فهم من فهم من المسلمين كائناً من كان أن ذلك من الإسلام , فلا صواب ولا خير يفتقد في الإسلام,ولا انحراف ولا فساد ولا زيغ يمكن أن يجده أحد في الإسلام.
·       إن الهدف الأساسي من الدين هو إعمار الكون,أي إقامة الحضارة بشقيها المادي والقيمي,وإن الأمر بعبادة الله وبيان أن كل حياة البشر هي ابتلاء واختبار وامتحان(العقيدة والنسك) إنما يصب ذلك في خانة الدعم والمساندة النفسية لمساعدة البشر على تحقيق الهدف وليس هدفاً أولياً في ذاته.
·       إن الدين الصحيح لا يتناقض فيه شيء داخله أو مع الواقع,فلا تتناقض العقيدة مع النسك(الشعائر),أو مع المعاملات,كما لا يتناقض شيء من الدين مع طبيعة البشر السوية أو مع طبيعة الكون,أو مع الهدف والغاية  (الحضارة).
·       إن كثيراً من المدافعين عن الدين ومن المهاجمين له يتنكرون أو يفتقدون لآلية الفهم الصحيحة للأمور (المنطق),أو لآلية سير وأداء الأمور(الفلسفة) ,أو لفهم تكوين الإنسان(علم النفس),أو لاستيعاب بواعث السلوك الجماعي للبشر(علم الاجتماع).
·       إن التجديد يبدأ بتجريد الدين من كل ما هو دخيل عنه والإبقاء على الوحي فقط(الكتاب والسنة اليقينية),ثم بتصحيح ألية فهم الأمور(المنطق),ثم بالفهم الصحيح للتكوين النفسي للبشر(علم النفس),والفهم الصحيح للواقع(العلم المادي) وتصحيح فهم آلية سير الأمور(الفلسفة),ثم بالفهم الصحيح للسلوك الجماعي للبشر في تعاملهم مع الواقع كله,أحياء وجمادات(علم الاجتماع).
·       إن تجديد فندق معروف يمكن أن يقتصر على إعادة دهان حوائطه,أو تغيير جميع أبوابه وشبابيكه,أو هدم الجدران الداخلية وإعادة ترتيب الحجرات,أو هدمه كله وإعادة بنائه على أساس جديد من التصميم المعماري والنظام الإداري ,ولكنه على الأرض نفسها ويحمل الاسم نفسه,إن الوضع الأخير هو فقط ما نريد أن يكون مع الإسلام,فالأرض والإسم موجودان ,وهما النصوص التي تمثل الوحي(القرآن والسنة),أما أن يشترط أحد أن يبنى البناء الجديد على الشكل أو التصميم أو مساحة الحجرات أو تنظيم الواجهة كما في الشكل القديم دون أن يقدم تعليلاً لأفضلية ذلك على ما يعرض أمامه من تغيير فهذا ما يجب أن نحذر منه كما نحذر من إعادة البناء على أسس أو تصميم أو شكل أو تشطيب غير معلل,أي لا يتطابق مع المرجعية الموضوعة الممثلة في العقل والعلم والمنطق والفطرة والغريزة ومنهج إعمار الكون,أو أن يكون مجرد مخالفة السابقين هدفاً في ذاته.
·       إن ما ورثته الأمة هو منظومة متكاملة مترابطة تكونت على مدار قرون,وضعت لها أسس ودعائم وأركان وستائر ومصدات لتضمن بقاءها,ولن يحدث تجديد مع بقاء هذه المنظومة بهيكلها الفكري والبشري,إنما التجديد سيحدث حين نستطيع تكوين منظومة جديدة بأسس وقواعد وأركان ودعائم مختلفة عمن سبقتها أو متشابهة,ولكنها المنظومة التي سنفهم بها الدين بأنفسنا والتي سنسأل عن هذا الفهم بها يوم القيامة,أما أن نسأل عن فهم الدين بمنظومة وضعها لنا السابقون وقيدت التفكير والمرونة الواجبة مع اختلاف الزمان والمكان والتحضر فهذا ما لا يمكن تقبله.
·       إن أي تمسك بالإبقاء على شيء من صنع السابقين يعد قيداً وعائقاً على إبداع البشر الحاليين,ولهذا فيجب تنحية كل ما هو صناعة بشرية,والإبقاء على ما يتوافق مع منهج من يجدد الدين فيصبح أمراً ضمن التجديد لتوافقه مع المنظومة الجديدة.وإن المنطق والفطرة والعلم والغريزة هي ضمن ما يوضع على أنه من صنع الله وليس البشر.
·       إن التجديد سيشمل إعادة تعريف جميع الألفاظ والمصطلحات,ثم بيان وظيفة ودور كل شيء في الحياة,ثم قيمته بالنسبة لباقي الأمور.
·       إذا وحدنا المصدر(القرآن والسنة),ووضعنا النصوص الموحدة في مجتمعات مختلفة,في التحضر والتخصص والأشخاص,ثم عدنا إليهم بعد مائة عام,فهل يمكن أن نجد توافقاً في التراث الذي بناه كل مجتمع على أساس تلك النصوص الموحدة؟,هل سيتفق مجتمع الشعراء مع مجتمع علماء الطبيعة مع مجتمع البدو مع مجتمع أهل التجارة والترحال مع مجتمع أهل المنطق والفلسفة؟,{تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (134) سورة البقرة.
·       إن التجديد يعني أن نبدأ من حيث بدأ الناس وليس بعد ذلك,أي أن نبدأ من حيث لا يمكن أن تكون هناك بداية قبل ذلك,من هنا لابد أن نبدأ بالنص (الوحي),ثم نفهمه كما يجب أن يكون الفهم بمقياسنا نحن وليس بمقياس أحد قبلنا,إننا يمكن أن نقبل ما نوقن أنه صواب ممن كان قبلنا,ولكن المرفوض أن يكون منهجهم مفروضاً علينا دون أن ندري لماذا وكيف تم وضع ذلك المنهج أو قبوله وإقراره.
·       إن تلقي الخطاب وفهمه يكون من خلال:
-         اللغة :حيث تمثل الوسيلة لإبلاغنا ما يقال بوضوح,دون أن تحدد اللغة المقصد أو الحكم على القول بالصواب و الخطأ أو الاستقامة والانحراف,أو الجد والهزل.
-         العقل:حيث يحكم على الأمور من خلال الواقع المدرك بالحواس الخمس.
-         الفطرة:حيث يحكم على الأمور من خلال مرجعية القيم والأخلاق والمثل العلا.
-         الغريزة:حيث يجب أن تكون الأمور جميعها في وعاء تلبية الغريزة,وما كان خارج هذا الوعاء فهو من العبث.
-         العلم:حيث سيفهم الناس الأمور بقدر ما أحاطوا بالعلم,ولن يفهموا أمراً ليس لهم به علم فهماً صحيحاً.
-         الهدف والغاية :حيث سنفرق بين الجد والهزل,وبين الإفساد والإصلاح,والبناء والهدم, وما يثمر والعبث, إن الهدف والغاية هو العامل الذي سيحدد الأولويات ويعطي القيمة النسبية للأمور.
·       إن تجديد الدين لابد أن يسبقه تجديد منظومة الحياة,لأن أصحاب المنظومة البالية لن يتقبلوا ولن يتوافقوا مع دين تجدد من خلال أسس وقيم غريبة عليهم,وإذا لم تتجدد المنظومة فسيقوم أهل المنظومة البالية بتسخير الدين المجدد لمنظومتهم فيعودون به إلى سابق عهده أو أسوأ مما كان عليه.إن التجديد يبدأ من الأنفس,فإذا تجدد ما بداخلها وتغير جددت دينها ودستورها وقوانينها وعاداتها وتقاليدها,أما أن يتجدد الدين في صورة مؤلفات ومراجع فسوف يعود به أصحاب الأنفس البالية إلى سابق عهده.إن القرآن هو الكتاب المقدس لدى أهل السنة والجماعة,ولدى الشيعة,ولدى كل الفرق الإسلامية,فلماذا يختلفون؟,إن الاختلاف في منهج النفوس هو الذي يخلق التباين في التطبيق,فإذا توحد المنهج تقارب الشكل والتطبيق.{إِنَّ اللّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} (81) سورة يونس
·       إن الحضارة الغربية الحديثة بدأت بتغيير الأسس والقيم والمفاهيم,ثم وجدت من يتبنى ذلك ويحمله,ثم أزاحت الدين أو غيرته أو هذبته حتى يتسنى لها الاستمرار في التقدم,فكان الدين آخر ما تغير,والإسلام كأصل يسبق الحضارة والفكر ويسمو على كل شيء,ولكن المشكلة فيمن يتعامل مع الإسلام وليس في الإسلام ذاته.
·        
·       إن تجديد المنظومة يعني أن نبدأ منذ ولادة الطفل,ونراجع كل شيء,ونلغي ما يعرف بالمسلمات والثوابت,فلا مسلمات إلا ما نرى أنها مسلمات,ولا ثوابت إلا ما نقبل أن تكون ثوابت,بالدليل والبرهان,وليس بالوراثة والتبعية.
·       إن الذين سيحكمون على الأمور فيقبلون ويرفضون هم أهل الحكمة والعلم والاستقامة,ولن يكون لأهل الأهواء والعصبية والعاطفة مكان بينهم.


الأربعاء، 23 فبراير 2011

لا يؤمن أحدكم حتى.....


تطبيق...حديث الرسول(ص):"لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"
المبحث الأول:معنى "لا يؤمن أحدكم حتى":أي لا يطلق عليه لفظ المؤمن ولا يجوز له أن يعد نفسه مؤمناً "حتى" أي أن هذا هو الحد بين الأمرين.أما قبل ذلك فلديه إيمان ولكنه لا يكفي لاعتباره مؤمنا عند الله.
لا يؤمن:أي كيف نجيز تصديقه القلبي وصدق اعتقاده:
 بالله:الذي خلق الناس جميعاً من نفس واحدة,وفرض فيهم العدل والمساواة,وفضل بعضهم على بعض في الصحة والقوة والذكاء والجمال وشكل الجسد والرزق والنسب.
والذي يراقبه ويعلم ما في نفسه,ثم يميته ويبعثه يوم القيامة ويحاسبه وأعد الجنة لمن خضع له وأصلح وأعد النار لمن شذ عن منهجه وأفسد.
والذي لا يحابي ولا يجامل أحداً على أحد,والذي يحب مكارم الأخلاق.
 باليوم الآخر:الذي سيقف فيه بين يدي الله وتوضع أعماله في الميزان,فمن عمل مثقال ذرة خيراً رآه,ومن عمل مثقال ذرة شراً رآه.
بالرسول:الذي بعثه الله ليتمم به مكارم الأخلاق,ولينشر به الحب والمودة والمروءة والعدل والمساواة بين الناس جميعاً.
"حتى":أي أنه قبل ذلك لا يجوز أن نعده مؤمناً أو يظن نفسه من المؤمنين.
يحب لأخيه ما يحب لنفسه
يحب لأخيه:أي يرضى ويقبل له,ويحكم على نفسه بأن ترضى وتقبل.
ما يحب لنفسه:أي ما يتمنى ويرتاح إليه ويسعد به ويرضى ويقبل به.
إن الإيمان هو الشجرة,و"يحب لأخيه ما يحب لنفسه" هو الثمرة .أو
إن الإيمان هو الماكينة,و"يحب لأخيه ما يحب لنفسه" هو المنتج.
فإذا وجدت الثمرة أو المنتج معيباً فلابد أن نبحث في الأصل لأن العيب فيه.
المبحث الثاني:كيف أفسدنا المقصد من الحديث؟:
قلنا:لا يؤمن أحدكم حتى:أي لا يكتمل إيمانه أي لا يصل إلى نسبة 100%. ثم عقبنا وبالطبع لا يصل إلى هذه النسبة إلا الأنبياء والأولياء وأين نحن منهم؟.
والصواب أنه بنص الحديث لم يصل لمرحلة الإيمان,أي لم ينجح في تجاوز الخط الفاصل بين الإيمان المقبول من الله وبين الغفلة والبعد عن الله,وليس بين الإيمان والكفر.
وقلنا يحب لأخيه ما يحب لنفسه:وهل المطلوب أن يحب الإنسان أن يكون غيره الأول والأفضل والأسبق؟ فنقول بالطبع لا,وهل يفرض على أحد أن يحب لغيره أن يكون مثله في الذكاء والقوة والجمال والنسب؟
والصواب هو أن ذلك بعيد عن مقصد الحديث,فالحديث يأمرك أن تقبل وترضى لأخيك أن يكون مثلك أو أفضل منك إذا تهيأت لكما نفس الظروف والفرص المتكافئة.
إن الحديث يقصد أن يرفض المؤمن لأخيه:الظلم والجور والغبن والخداع والقهر والذل.يرفض أن يعاني من القلق والتوتر والرعب والخوف.لا يقبل أن يحدث أي عدوان على ماله أو عرضه أو نفسه,تماماً كما يرفض أو يقبل ذلك على نفسه.
إن المقصود من الحديث هو عمل الجوارح في المقام الأول,في السلوك والمعاملات,أما عمل القلب والعاطفة فيأتي في المقام التالي أو لا يأتي,إن الحب القلبي والتمني والفرح والسرور لن يعنينا قبل ما يترتب على هذه المشاعر النفسية من عمل وسلوك وبناء أو هدم,أما أن نجعل الحديث يقتصر على عمل القلب أو يكون ذلك في المقام الأول فهذا هو الانحراف عن المقصد.
المبحث الثالث:ما هي أعراض مخالفة الحديث؟ يجب أن نذكر جميع مجالات الحياة,وسنذكر منها الآتي:
* المال:أن يكون مال غيرك أرخص عليك من مالك:التليفونات(استخدام,استعارة,هو الذي يطلب),الطعام(تقدم للناس شيئاً وتفرض عليهم أشياء أغلى),المواصلات(قبول دفع الغير وعدم الرد),استعارة الأجهزة الكهربائية والأدوات المنزلية الاستهلاكية غير الماعون).
* العرض: الثورة والغضب حين يمس الأمر عرضه ,والتريث والهدوء والبلادة حين يعتدي أحد من أهله على أعراض غيره,ونحن نسأل من يريد أن يتأكد من إيمانه:كيف يكون رد فعلك حين تعلم بوجود علاقة عاطفية بين الرجال من ناحيتك ونساء الغير,وهل تتساوى حين يقيم  رجل أجنبي علاقة مع من ينتسب إليك من النساء,وماذا يكون تصرفك في الحالتين أي لك أو عليك إذا واجهت: الشك في وجود علاقة,وجود أدلة مثل الخطابات والتليفونات,وغيرها؟.
* الأمن:لا يتساوى من أخافك مع من تخيفه.عندما تعرضت لموقف سبب لك قلقاً وخوفاً بسبب تمكن إنسان منك في وضع معين,هل قلت في نفسك إذا مكنني الله في إنسان فإنني سأنتقم لنفسي منه,أم قلت لن أسبب لأحد من المعاناة مثل ما عانيت منه.
* الكرامة:هل تشعر بمن خدشت كرامته بكلمة أو سخرية,هل فرقت بين كرامة ابنك أو أخيك أو أبيك أو دينك أو وطنك,وبين غيرك الذي لديه ومن حقه أن يشعر بما تشعر به.
المبحث الرابع:من دلائل الانحراف والظلم والبغي رفض القانون والنظام الذي أجمع الناس على صوابه واستقامته حين تمكنه,وقبوله له ومناداته به حين عجزه وضعفه,أي رفض الخضوع للقانون العام بين البشر والسعي لفرض قانون متميز يحقق له وحده ما يريد:
-         في المنافسة بين الناس,و السعي للتميز والتفوق :في الرياضة والتجارة والمهن المختلفة والسياسة والتعليم:
-         في العلاقات العامة والخاصة:بين الجيران,الحاكم والمحكوم,صاحب العمل والعميل(الزبون),القائد والأتباع,المسئول والشعب.
-         في الاختلافات بين طرفين والسعي للتحكيم فيما بينهما.
المبحث الخامس:في الحديث دليل على وجود المرجعية داخل كل نفس:فكل فرد يعلم يقيناً ما يحبه ويرضاه لنفسه,وما عليه إلا أن يساوي بين نفسه وغيره.
هل يمكن أن يحاسب شخصين على خطأ مماثل بحكمين مختلفين؟
نعم.فمن طلب من أخيه أن يدعوه للغذاء في مطعم وكلفه مبلغا كبيراً من المال,كيف نحاسبه؟.إذا كان هو نفسه قد تعود أن يقوم بدعوة إخوانه على نفقته الخاصة,فإننا سنترفق به ولا نلومه بنفس الشدة التي نلوم بها من اشتهر ببخله وتقتيره,ثم ينتهز الفرصة ليطلب من غيره الإنفاق عليه,فهذا يفرق بين قيمة المال لديه ولدى غيره .
إن البخيل الذي يرفض أن يأخذ من أحد شيئاً أو يكلفه شيئاً هو مؤمن,لأنه يعتبر أن الناس جميعاً مثله,ولا يحب أن يؤلمهم بالأخذ من أموالهم,والجبان الذي يشفق على من يتصدى لأمر فيه خطورة على نفسه مؤمن,لأنه يعامل غيره كما يتعامل مع نفسه.أما البخيل الذي يتلذذ بأموال الناس,والجبان الذي يدفع بالناس لعظائم الأمور,فلا يمكن أن ينتسبوا للإيمان.
المبحث السادس:من هو المعني بالحديث؟
إن المعني بالحديث هو كل إنسان يتصف بهذه الصفات:
أولاً:يملك القدرة على تبين ما يحبه لنفسه بوضوح وجلاء.
ثانياً:يملك القدرة على استيعاب معنى العدل والمساواة بينه وبين الآخرين,أي أن الآخرين يحبون لأنفسهم مثل ما يحبه هو لنفسه.
ثالثاً:يملك القدرة على العمل والفعل,على البدء به والاستمرار فيه والتوقف عنه.
رابعاً:يملك القدرة على تبين ما يمكن أن يحدثه فعله,أي تبعات الفعل من ألم أو فرحة,من بناء أو إفساد أو عطلة..الخ.
إذا اتصف أي إنسان بهذه الصفات مجتمعة فقد فرض عليه أن يكون مؤمناً.
أما من لا يتصف بهذه الصفات مجتمعة فلا يمسه هذا الحديث بشيء لأن التكليف قد سقط عنه.
المبحث السابع:لا ينسب عمل إلى الإيمان إلا إذا اتصف بالكمال وتنزه عن النقص:
فلا ينسب عمل به خطأ إلى الإيمان,فالجزء الصحيح من العمل هو ما ينسب للإيمان أما الخطأ في العمل ولو كان يسيراً فلا ينسب للإيمان,فالإيمان لا يعرف إلا الكمال في العمل.لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن,ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن. والعدل في الحب بين الإنسان نفسه وغيره هو أحد أعراض الإيمان.
المبحث الثامن:لا يختلف القانون باختلاف وضع الحاكم والمحكوم:
إذا سألنا إنساناً:هل تحب أن يحكمك غيرك بالقانون نفسه الذي تحب أن تحكم به غيرك؟,فإن قال نعم فهو سوي النفس, مستقيم الفكر,أما إذا قال:لا,فهو مريض النفس منحرف الفكر,إذا رفض إنسان قانوناً لشعوره بالظلم منه ثم طبقه هو بنفسه على غيره حين تمكن فهو ظالم باغ,ليس عن جهل بل عن بينة ويقين. 
إن الغالبية العظمى من الناس تفرق بين القانون الذي تحكم به والآخر الذي تحب أن يحكمها غيرها به,فحين تكون محكومة تحب العدل والمساواة,أما حين تحكم فالتميز والاستثناءات لطبقة الحكام ومن والاهم,وهذا يدل على اعوجاج نفوسهم وانحرافها عن الصراط المستقيم,ومن عجب أن ينسب ذلك إلى الدين,فيفترون على الله كذباً بأنه يشرع للناس الظلم والتمييز والتفرقة بين الناس,وهذا هو القرآن كيف يعالج هذه القضية:
·       {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ*الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ* وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ}(من 1-3) سورة المطففين
·       {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ* وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ* أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (48-50) سورة النــور
·       {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} (135) سورة النساء
·       {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (8) سورة المائدة
·       {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِن جَآؤُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (42) سورة المائدة
·       {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (152) سورة الأنعام
·       {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} (29) سورة الأعراف
·       {وَيَا قَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} (85) سورة هود
·       منتا
·       {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىَ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (88) سورة هود
إن كثيراً من المسلمين وقعوا بتعصبهم فيما وقع فيه غيرهم من أهل الأديان الأخرى,فتخلوا عن القيم البشرية ووضعوا قيما مختلفة نسبوها للدين زوراً وبهتاناً على الله,فجعلوا العدل والمساواة والرحمة وحق كل إنسان في الحياة وفي الاعتقاد وفي الحرية أموراً لا يفهمونها إلا من خلال دينهم,وهي مختلفة عما تعارفت عليه البشرية وما فطر الله الناس عليه,وأصبحوا كما أصبح غيرهم فقول الحاخام أو القس أو الشيخ المفتي أو الفقيه يعلو عندهم على ما خلقه الله داخل كل إنسان,وهم جميعاً يحسبون أنهم مهتدون!.